لدغه عقرب وهو يتحدث
عن الصبر فلم يتحرك وقال: خجلت أن أدفعه وأنا اتحدث عن الصبر
نلتقي اليوم بسيرة عطرة لرجل عاش في رحاب الله, زهد الدنيا بما فيها, همه
الأوحد طاعة الخالق عز وجل, لم يخط خطوة لنفسه فيها راحة, استيقظت عواطفه
على صراخ ضميره, كان اماما لأهل التصوف, ووصل الى الكمال في أصناف العلم,
أول من تحدث عن الحقائق والتوحيد في بغداد, وكان أغلب مشايخ العراق من
مريديه.
هو "سري السقطي"
الذي تحدث عنه محمد صديق المنشاوي مؤلف كتاب "الزهاد مئة أعظمهم محمد صلى
الله عليه وسلم". ولد في بغداد, وكان يمتلك حانوتا , كان يعلق عباءته كل
يوم على بابه ويصلي, فجاء رجل ذات يوم من جبل اللكام لزيارته. ورفع العباءة
من على الباب وسلم على سري السقطي
وقال له: يبلغك الشيخ الفلاني من جبل اللكام السلام, فقال السري:
انه قد سكن الجبل, ولا يعمل, ويجب على الرجل الانشغال بالحق في السوق بحيث
لا يغيب عنه لحظة.
سُئل عن حاله في بدايته, فقال: مر حبيب الراعي بدكاني ذات يوم, فأعطيته
شيئًا يمنحه للفقراء فقال: "خيرك الله" ومنذ ذلك اليوم الذي قال فيه هذا
الدعاء فترت الدنيا على قلبي.
جزرة في عسل التمر
قال عنه الجُنيد: ما رأيت أعبد لله من السري
السقطي,
أتت عليه ثمان وسبعون سنة ما رُئي مضطجعًا الا في علة الموت. وقال أيضا عن
حاله وزهده: سمعت سريًا يقول: اشتهيت منذ ثلاثين سنة جزرة أغمسها في عسل
التمر, وآكلها فما يصح لي.
وقال عنه الحسن البزار, كان أحمد بن حنبل وبشر الحافي هنا, وكنا نرجو أن
يحفظنا الله بهما, ثم انهما ماتا وبقي السري,
واني لأرجو أن يحفظنا الله بالسري.
كان سري من وجله وخوفه يقول: اني لأنظر الى أنفي كل يوم مخافة أن يكون
وجهي قد اسود, وما أحب أن أموت حيث أُعرف. فقيل له: لم يا أبا الحسن? فقال:
أخاف ألا تقبلني الأرض, فأفتضح.
الخزف المكسور
لنتخيل معاً هذا الموقف, ربما كان أحدنا مكانه, فقد روى كتاب "تذكرة
الأولياء" لفريد الدين العطار النيسابوري, أن الجُنيد دخل يومًا على السري
وهو يبكي, فقال له: ما يبكيك? فقال: جال بخاطري أن أعلق "كوزًا" (اناء به
ماء) الليلة ليبرد الماء, ثم استغرقت في النوم, فرأيت حورية, فقلت لمن أنت?
فقالت: لمن لا يعلق الكوز ليطيب ماؤه, وضربت تلك الحورية بكوزي على الأرض
وقالت: انظر ها هو, قال الجنيد عن السقطي
انه رأي الكوز, خزفًا مكسورا, وكأنه كان قد وقع منذ زمن بعيد.
رُوي أن السري
كانت له أخت, فاستأذنته أن تكنس له داره, فلم يأذن لها, وقال: لا تساوي
حياتي أجر هذا, ودخلت داره يومًا فرأت عجوزًا كانت تكنس داره, فقالت: يا
أخي, انك لم تأذن لي أن أقوم بخدمتك, والآن أحضرت امرأة غريبة! فقال: لا
تشغلي قلبك يا أختاه, فهذه هي الدنيا قد احترقت في عشقنا وحُرمت منا, والآن
استأذنت للحق (تعالى) أن يكون لها نصيب من زماننا, فمنحت مكنسة رواقنا.
روى أيضًا أن رجلا ظل ثلاثين عامًا ملتزمًا بالمجاهدة, فقيل له: بما نلت
هذا? قال: بدعاء السري,
قالوا: كيف? قال: دخلت داره يومًا, وطرقت الباب, وكان في خلوة, فصاح: من?
قلت: عارف, قال: ان كنت عارفًا لشغلت به, ولما اهتممت بنا, ثم قال: الهي,
اشغله بك حتى لا يهتم بشخص قط, دعا هذا الدعاء, فنزل شيء بصدري ووصل بي
الأمر الى هذه الدرجة.
قال سري السقطي
ذات يوم: منذ ثلاثين سنة وأنا أستغفر بسبب شكر, قيل: وكيف? فقال: وقع حريق
بسوق بغداد, لكن دكاني لم يحترق فأخبروني, فقلت: الحمد لله, وأستغفر خجلا
من أنني أردت لنفسي أفضل مما كان لاخواني المسلمين وحمدت الدنيا.
فقد حدث حريق في سوق بغداد ذات يوم, فقيل له: احترق السوق, فقال: وأنا فرغت
أيضًا, نظروا بعد ذلك فلم يكن حانوته قد احترق, ولما رأي ذلك, وهب الفقراء
كل ما يملك, وسلك طريق التصوف.
وقال أيضا: قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم, وقلوب المقربين معلقة بالسوابق.
ومعنى ذلك أن حسنات الأبرار هي سيئات المقربين, وتسقط الحسنة على السيئة
فتمحوها, وبذلك يختم الأمر عليك في كل منزلة تنزلها, والأبرار هم أولئك
القوم الذين ينزلون في نعمة }ان الأبرار لفي نعيم{, لا جرم أن قلوبهم معلقة
بالخواتيم, أما السابقون المقربون فان لهم عينًا في الأزل, فلا جرم لا
ينزلون أبدًا ولا يستطيعون الوصول الى الأزل, لهذا طالما أنهم لا ينزلون في
منزلة قط فيجب أن يسحبوا الى الجنة بزنجير.
وروى أن السقطي
كان يتحدث عن الصبر يومًا, فلدغه عقرب مرات عدة, فقيل له: لماذا لم تدفعه:
قال: خجلت, فكيف أدفعه وأنا أتحدث عن الصبر?
وقال الجنيد: لما مرض سري السقطي
دخلت لعيادته, فكانت هناك مروحة, فأخذتها, وكنت أجلب بها له الهواء, فقال:
يا جنيد, ضعها كي تلتهب النار, فقال الجنيد: ما الحال? فقال: "عبد مملوك
لا يقدر على شيء, فقلت: عظني, قال: لا تنشغل بصحبة الخلق عن صحبة الحق
تعالى, فقال الجنيد: ان قلت هذا الكلام من قبل لما كنت صاحبتك أنت أيضًا,
وأسلم السري
الروحمنقول للأمانة....